تقوم الدول بتوفير كوادر وطاقات كبيرة لتمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم كالتصويت في الانتخابات أو المصادقة على العقود أو إثبات الملكية أو التنازل عنها. ويجري تنسيق هذه الأمور من خلال دوائر ووزرات متعددة تنتشر فروعها في أرجاء الدولة.
ولكن ومع التقدم التقني المذهل الذي وصلت إليه البشرية، صار من الممكن إنجاز تلك المسائل إلكترونيا ودون الحاجة إلى تعيين موظفين متفرغين أو إهدار الموارد من بنية تحتية أو حتى طباعة ورقة.
أتقدم هنا باقتراح لتنفيذ نظام مواطنة إلكتروني، يبسط الكثير من التعقيدات الموجودة حاليا ويوفر في النفقات بدرجة كبيرة. والاقتراح يستند إلى تقنيات موجودة ومتوفرة تجاريا.
يقوم النظام المقترح على فكرة الهوية الذكية، وإليكم شرحها بالتفصيل:
يمكن استخدام البطاقات الذكية أو الساعات الذكية لتوفير خدمة الهوية الذكية لكافة المواطنين. تحتوي الهوية الذكية على:
أ- معلومات شخصية عن المواطن، مثل الرقم الوطني الفريد والاسم الرباعي وتاريخ الميلاد ومعلومات عن الأب والأم والزوج والأبناء وعنوان السكن وبيانات التواصل (رقم الهاتف والبريد الإلكتروني) وغيرها من البيانات مثل معلومات أهلية قيادة المركبات أو زمرة الدم وغيرها.
ب- زوجين من مفاتيح التعمية مفتاح عام ومفتاح خاص. واستخدام المفتاح الخاص لتعمية أي محتوى هو بمثابة الإمهار بالختم أو التوقيع. ويتطلب استخدام المفتاح الخاص للتعمية توفير تحقق-متعدد يتمثل ببصمة الإصبع أو بصمة قرنية العين و رمز سرّي. والمفتاح الخاص سرّي ولا يخزن في أي مكان إلا على الهوية نفسها. والتحقق المتعدد سيضمن حماية المواطن من عمليات تزوير الهوية.
ج- نسخة عن كل الوثائق ”الممهورة“ حسب الأصول التي كان المواطن طرفًا فيها. بحيث يمكن بسهولة التأكد مِن مصداقية التواقيع التي عليها وبالتالي التحقق مِن صحتها.
توفر الدولة خوادم مترادفة محاطة بأعلى درجات الأمان والسرية (يصعب معها ضياع البيانات أو التلاعب بها) لتقوم تلك الخوادم بتخزين معلومات المواطنين الموجودة على الهوية الذكية. بالإضافة إلى المفتاح العام (العام فقط أما الخاص فلا يغادر البطاقة). ثم تقوم تلك الخوادمة بربط ملف المواطن بمعلومات ترتبط بالخدمات مثل:
أ- السجلات الطبية والمرضية وهي ضرورية لتسهيل عمل الأطباء لاحتوائها على التاريخ المرضي والحالة الصحية والمحاذير الصحية لهذا المواطن.
ب- السجلات الجنائية لاستخدامها في نظام الإئتمان وتحديد درجة ”ثقة“ المواطن (أو ربما تشابه ذلك مع ما نسميه ب حُسن سير وسلوك). والتي يحتاج المواطن إلى تقديمها عند التحاقه بعمل جديد مثلا أو عند تقديم شهادته في المحكمة أو لإتمام عقد استئجار منزل وهكذا.
ج- السجلات المدنية كدفتر العائلة، لتوثيق الزواج والولادة والأبناء وتوثيق الطلاق والوفاة. فيصبح من السهل انجاز هذه الأعمال، بما فيها إجراءات حصر الإرث مثلا.
د- سجلات ملكية الأراضي والعقارات والأصول الثابتة والمنقولة كالسيارات، بحيث يرتبط رقم المواطن بشكل مباشر بمعلومات الممتلكات.
ه- توثيق العقود والديون والرهن والتوكيلات (مثل ما يعرف اليوم بكاتب العدل). بحيت تُدخَل العقود إلكترونيا ويوقع عليها المتعاقدون ويوقع عليها شهود عدول.
و- إصدار التبليغات الرسمية (الممهورة) إلكترونيا وإرسال إشعار بها عبر قنوات الاتصال الإلكترونية إلى المواطنين بحيث يمكن للمواطن الرد بوصل استلام ممهور بتوقيعه ومن ثم متابعة الإجراء المطلوب.
ي- إصدار الرخص مثل قيادة السيارة (بفئاتها) ورخص ممارسة المهن وغيرها.
وتقوم تلك الخوادم أيضا بتوفير واجهة برمجية وواجهة مستخدم تتيح التأكد من مصداقية أي وثيقة كما تتيح التأكد من استمرار صلاحتيها. مثلا هل لا زالت قطعة الأرض تعود إلى المالك المذكور في الوثيقة؟ هل لا زال الزواج قائم؟ هل شهادة حسن السير لا تزال كما هي؟ هل لا يزال التوكيل نافذًا؟ وهكذا.
وتقوم الدائرة المختصة في الدولة بإصدار الهوية الذكية لكل مواطن عند الطلب، وقد يتطلب إصدارها أو إعادة إصدارها مجيء معرفين ”ثقات“ (عدول) يوقعّون إلكترونيا للتأكيد على هوية صاحب الطلب.
وتُستخدم الهوية الذكية كبديل عن هوية التعريف الشخصي التقليدية، وبديل عن جواز السفر وبديل عن رخصة قيادة المركبات بل وبديل عن البطاقات المصرفية لإنجاز المعاملات المصرفية واستخدامها مباشرة مع الصراف الآلي وبديل عن بطاقات الدخول إلى الأماكن التي تتطلب التحقق من الهوية أو إذن مسبق.
بالإضافة إلى ذلك تستخدم الهوية الذكية لإتمام وتوثيق إجراءات التنازل عن الملكية، فيقوم الأشخاص المعنيين بالتوقيع على عقد التنازل كما يوقع عليه ”إلكترونيا“ الشهود العدول، ثم تقوم الدائرة الحكومية المعنية بالتوقيع إلكترونيا على العقد ليأخذ مفعوله الرسمي.
ويمكن استخدام الهوية الذكية للولوج في مواقع الخدمات الإلكترونية المختلفة دون الحاجة إلى عمل اسم مستخدم وكلمة سر لكل موقع مما يساهم في حل مشكلة عويصة يعاني منها الناس حاليا ويمكن فعل ذلك أيضا مع أعطاء المستخدم الحق في تحديد المعلومات الإضافية عنه التي يجري توفيرها للمواقع الأخرى.
كما وتستخدم الهوية الذكية في التوقيع على الاقتراحات التي يقدمها المواطنون للدولة بحيث تلتزم الدولة بالتعامل مع الاقتراح إذا تجاوز نسبة معينة من الداعمين له. وتستخدم بالمنوال نفسه للتصويت على القرارات المهمة للدولة والبلديات. ويمكن اعتماد تقنية ”سلسلة-المقاطع“ في توثيق كافة حالات التصويت وتوفيرها في سجل عام، يُذكر فيه المفتاح العام للمواطن فقط دون ربط ذلك بمعلوماته الشخصية. فيمكن بالتالي معرفة نتائج أي مقترح للتصويت بصورة شفافة وبمصداقية عالية. كما يمكن للمواطن أن يراجع القضايا التي صوّت عليها والتأكد بأن صوته قد أُخذ كما أراد. كما وتتيح هذه الآلية الاستغناء الكامل عن مجالس الشعب والنواب. تبقى للأحزاب ومجموعات الضغط أهميتها في نشر الوعي ووضع المقترحات ولكن يبقى للمواطن إجراء التصويت المباشر دون عناء أو تعقيد.
باستخدام هذه التقنية يمكن الاستغناء عن العديد من الدوائر الخدمية في الدولة وبالتالي توفير النفقات والتخلص جذريا من الترهل الإداري في الدوائر الحكومية ناهيك عن سد الباب على الرشاوي والفساد لأن معظم الإجراءات تتم إلكترونيا بصورة لا يمكن التلاعب بها.
وبالنظر إلى الدور المحوري الذي تلعبه الهوية الذكية وما ينبني عليها من خدمات، فإنه يلزم تطوير هذا النظام بالكامل بصورة حُرّة ومفتوحة المصدر، بحيث يُتاح للمواطنين مراجعة النصوص المصدرية والعتاد والتبليغ عن الثغرات والعلل والتطوير عليها. وتقوم الهيئة المشرفة على نظام الهوية الذكية باعتماد التغييرات وضمها.
هنالك العديد من المحاولات لتفعيل الهوية الذكية في بعض الدول، لكنها لم تصل إلى درجة التناغم والتكامل الموضحين هنا – حسب ما أعلم. وعند استخدامها سيصبح التعامل مع النماذج والطلبات الورقية وما عليها مِن أختام وتواقيع وملاحقة المعاملة مِن دائرة إلى دائرة شيئًا من الماضي.
عيوب ومخاطر الهوية الذكية وسبل تلافيها
أ- احتمال ضياع الهوية الذكية: لن يستطيع أحد سوى مالك الوثيقة القيام بالتوقيع الإلكتروني كما أن كافة المعلومات الموجودة على الهوية الذكية (باستثناء المفتاح الخاص) موجودة أيضا على الخوادم الرسمية. لذلك يمكن إصدار هوية جديدة وتنزيل البيانات عليها. ولكن سيتطلب ذلك إنشاء زوجين جديدين مِن مفاتيح التعمية.
ب- احتمال ضياع البيانات: ويعالج هذا العيب بإنشاء أنظمة تخزين احتياطية لمرادفة البيانات وأن يكون ذلك في عدة مناطق جغرافية. وبتطبيق مبدأ تجميد كل عملية، بحيث يكون التعديل نفسه عبارة عن عملية أخرى في سلسلة العمليات فسيسهل هذا من مزامنة البيانات عبر عدد كبير من الخوادم وأنظمة التخزين مما يقلل احتمال الضياع وبصورة كبيرة.
ج- احتمال تزوير الهوية: وهذا أيضا وارد بالرغم من التدابير المشددة، ومن أهم أوجه تلافي هذا الاحتمال هو الإعلان عن كافة التفاصيل التقنية المتعلقة بالهوية حتى يتسنى لخبراء أمن المعلومات التأكد من متانتها. واحتمال التزوير هنا – بالمناسبة – أقل من احتمال التزوير في الأنظمة المستخدمة حاليا.
د- احتمال اختراق الخوادم المركزية والتلاعب بها أو التأثير على أدائها: ولا بد هنا مِن مراعاة كافة التدابير الأمنية والإعلان عنها للناس حتى يتسنى لخبراء أمن المعلومات مراجعتها.
ورغم تلك العيوب والمخاطر جميعها، فإن الفوائد المرجوة من استخدام الهوية الذكية أكبر بكثير من مخاطرها.