على هامش الحديث عن الحد القسري للإنجاب في مصرـ تذكرتُ فيلما شاهدته قبل فترة واسمه “ماذا حدث لإثنين؟”(?What happened to Monday)
تجري أحداث الفيلم في المستقبل المتخيل في عام ٢٠٥٠ ويحاول الفيلم في شقه الأول تعميق وتهويل المخاوف من الزيادة السكانية وأنها ستأتي على موارد الأرض كُلها. بتعبير الفيلم “زيادة سكانية كارثية”(Catastrophic over population).
ويقدم الفيلم الحل في فرض قانون صارم لضبط الإنجاب وفرض سياسة الطفل الواحد بالقوة. فيبقون في الأسر الطفل الأول فقط ويأخذون باقي الأطفال إلى مكان خاص بزعم تجميدهم للمستقبل.
هذا بالمناسبة خط واضح جدًا يحاول الإعلام العالمي التركيز عليه (من خلال عشرات الأفلام والتقارير والمقالات والأبحاث) وكأن المشكلة التي تُعاني منها البشرية هي الزيادة السكانية، وقد نجحوا في تشكيل هذا الرأي العام لدى الكثير من الناس. ولكن الحقيقة أن هذا الكلام عارٍ عن الصحة تماما.
مشكلة البشرية الحقيقية هي في الاستعباد والظلم والقهر واستيلاء فئة صغيرة جدا على موارد الدنيا كلها وإبقاء غالبية البشر -وبقصد- في فَقرٍ وعَوَز.
بالمناسبة، فإن البشرية الآن لا تستغل سوى واحد في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة! وأن الأرض التي نعيش عليها قادرة على تلبية حياة أكثر من مئة وخمسين مليار (وليس فقط عشرة مليارات). هذا طبعا دون أن نفترض تقدم أو ثورة في الانتاج الزراعي والغذائي وهندسته. كما أن زيادة البشر مع حُسن الإدارة وتحقيق الاستخلاف فيه الخير الكثير، فها هي الابتكارات والاختراعات التي لا تتوقف والتي ترافقت بصورة طردية مع الزيادة السكانية.
في هذه الظروف فالأصل كان أنّ يوضع حد للثراء وسيطرة تلك الفئة وأن لا يترك لهم المجال للتغول بلا ضبط. فليس من المقبول أن تملك تلك القلة ما يزيد بأضعاف عن حاجتها (ضمن أقصى درجات الترف) والناس في المقابل تموت جوعًا. بل الأصل أن تؤخذ تلك الزيادة كلها منهم. والأصل أن لا نضع أي اعتبار للحدود والكيانات السياسية القومية وبالتالي فللبشرية جميعها الحق في العيش بكرامة وتوفر أساسيات الحياة لها، حتى تنطلق الإنسانية إلى النماء والبناء والتقدم. ولكن هذا ليس هو الواقع الحاصل مع الأسف.
وتقوم الشركات الكبرى التي تسيطر عليها تلك الفئة الصغيرة على هدر الموارد والطاقات وإفساد الهواء والماء والطعام بل وتشجيع المزيد من الهدر من خلال الترويج للاستهلاك المُفرط والديون؛ فجلعوا الشعوب تدور بهوس وبلا وعي في تلك الدوامّة. وحاربوا وقضوا -قصدا- على أي محاولات للاستقلال سواء السياسي أو المالي أو الصناعي أو الزراعي والغذائي.
آمنت تلك الفئة المتنفذة بالفلسفة المادية فتجردوا من أي قيم أو مشاعر إنسانية. فالبشرية بالنسبة إليهم هي قطعان يجب السيطرة عليها وترويضها. ولا مشكلة عندهم مطلقا لو أبيدت شعوب كاملة عن بكرة أبيها مقابل بقاء الأمر تحت سيطرتهم. وليست كوارث الإبادة البشرية إلا شكل من أشكال فرض السيطرة (مهما تنوعت المبررات الشكلية المصطنعة). بل وساهموا في نشر الفلسفة المادية والحط من قيمة الإنسان من خلال التشجيع على الإلحاد وأننا لسنا سوى غبار كوني لا قيمة له وأن الإنسان لا يملك إرادة وأن كل ما يُسمى فكرا هو تفاعلات كيميائية مع البيئة المحيطة. فلسفة بائسة يائسة خالية من الروح والإشراق.
نعم، وبعيدا عن أي فروقات (بين عبيد المنزل أو عبيد الحقل)، فإن البشرية جميعها تعيش الآن عصر عبودية “مقنّع”. وقد أحكمت تلك الفئة قبضتها على الأنظمة المالية والسياسية والعسكرية والإعلامية في أرجاء المعمورة كلها.
والبشرية الآن في أمسِّ الحاجة إلى كسر تلك الدوّامة من خلال إيجاد دولة تتمرد على تلك المنظومة. وتستقل سياسيا وماليا -فتستقل عن الدولار وفكرة تعويم العملة وتلغي الربا- وعسكريا وثقافيا وفكريا وإعلاميا و غذائيا. وأن تتمرد أيضا على الفلسفة المادية البغيضة وأن تزرع القيم الإنسانية من جديد.
فإذا نجحت تلك الدولة في النجاة من الحروب التي ستُقام ضدها -عسكريا وإعلاميا واقتصاديا- فإنها ستقدم رسالة لباقي البشرية أن الانفلات من العبودية ممكن، وأن الإنسان يستحق أن يعيش بكرامة حقيقية.
نعم، فكرة إقامة دولة تقدر على التمرد صارت أقرب للخيال. حيث تقوم تلك الفئة المسيطرة بالتسلط على الجميع، بمن فيهم مَن يرون ضرورة التغيير والتمرد. وتفعل ذلك بكافة الطرق والأساليب. وقد كتبتُ سابقًا كيف أن زعماء بلاد العالم الثالث واقعون تحت قبضة ذلك التأثير الخارجي وهم أعجز من أن يقدروا على فعل شيء -حتى لو أرادوا-.
ويبقى السؤال المطروح -بعد زوال الغشاوة وفهم مجريات الأمور- هو كيف يمكن أن نكسر تلك القيود؟ وكيف يمكن نشوء تلك الدولة التي ستتمرد على النظام القائم؟
ربما لا قيمة حقيقية لأي إجابة نظرية تفصيلية لتلك الأسئلة، لأن أي طرح أو تصور مفصل سيجري نقده ونقضه بصورٍ مُبالغة. وهذا من مظاهر العجز التي نعيشها، وقد قيل المُصاب لا يُصيب. وصار أقصى ما يُطمَحُ إليه هو تعميق الوعي على الواقع الموجود وزرع الأمل في أننا قادرون على التغيير والعمل بطول نفس وإصرار مهما طال الأمد.