إزالة التشويش

المشكلة الكُبرى التي نُعاني منها كمسلمين اليوم هي في اللُبس والتشويش اللذين دخلا على المرجعية التي نحتكم إليها. فمرجعية المُسلم ليست عاطفته ولا مصلحته ولا عقله … حَدُّ استخدامنا للعقل هو في الاهتداء إلى الخالق عزّ وجل والتيقن بأنه تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم. فإذا هداك عقلك إلى كل هذا، فقرارك الدخول في هذا الدين يتضمن أمرين: الأول هو إيمانك بكل ما جاء فيه من عقائد. كإيمانك بالجنة والنار والحساب واليوم الآخِر والرسل والملائكة والكتب. وإيماننا بالعقائد القطعية الثابتة هو اساس اعتبارنا مسلمين فمن أنكر واحدًا مِن هذه العقائد خرج من دائرة الإسلام وأصبح كافرًا، سواء أكبرت تلك النقطة أم صغرت. (مثلا إنكار صلاة السنة أو إنكار آية واحدة من القرآن أو إنكار الجن هو خروج من الإسلام حتى لو آمن المرء بكل شيءٍ آخر). يقول الله عزوجل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} والثاني هو استسلامُك لأوامرِ اللهِ ونواهيه (الأحكام الشرعية) كما وردت فيه لتوجهك في سلوكياتك وأفعالك. وهذه الأحكام من حيث نوع الطلب هي خمسة: الواجب (الفرض الذي عليك الالتزام بفعله وتؤثم إذا لم تفعله) والحرام (الذي عليك الامتناع عن فعله وتؤثم إذا فعلته) والمندوب (الذي تُثاب على فعله ولاتؤثم على الامتناع عنه) والمكروه (الذي تثاب على تركه ولا تؤثم إذا فعلته) والمُباح (والذي لا يترتب على فعله أو تركه جزاء). فغاية المسلم هي الامتثال لأوامر الله عزّوجل لنيل مغفرته ورضاه. يقول الله عزوجل{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} ومرجعية الأحكام الشرعية في الإسلام هي القرآنُ والسنّةُ وإجماعُ الصحابة والقياس. فعندما تُبحثُ أيُّ مسألة متعلقة بالعقائد أو الأحكام، نعود إلى القرائن (الأدلة) من القرآن والسنة والإجماع، وطبعا يستلزم ذلك فهمًا مُحكمًا للغة العربية. وخرج في الأمّة الإسلامية فُقهاء مجتهدون وهُم مَن درسوا القرآن والسنة وتمكنوا من اللغة العربية ومِن أساسيات الاجتهاد (أصول الفقه وتصحيح الأحاديث والجرح والتعديل …). وصناعة المجتهدين هي في الإلمام بالقرائن في موضوع البحث وإدراك معانيها (دلالاتها) وصحة ثبوتها (في الأحاديث فقط) ثم يخرجون بِحكمٍ شرعي تكون فيه تلك القرائن متوافقة متناسقة. فإعمال الفقهاء للعقل هُنا لا يخرج عن بذل الوسع والطاقة في معرفة وفهم تلك القرائن لنعرف مُراد الشارع (أي المُشرّع وهو الله عزوجل) منا. وقد ترك لنا هؤلاء العلماء إرثًا عظيمًا أصّلوا للفقه والاجتهاد وللعلوم الشرعية المرتبطة بهما و ناقشوا على مدى القرون عددا هائلا من القضايا. وهذا الشيء أعطى للإسلام خصوصية وتميزًا على غيره من الأديان لأن المرجعية فيه دائما للنص والدليل وليس للهوى أو العقل. فلا تتغير هذه المرجعية على مدى العصور. بل ويعطيك الحق دائما في مساءلة أي فقيه عن الأدلة التي بنى عليها اجتهاده وأن تسأله عن تناسقها مع بعضها في ذلك الباب. وهنالك من الأحكام ما هو قطعي لا يوجد فيها مجالٌ للشك أو الاختلاف. وهنالك ما هو ظني (سواء من حيث دلالة القرائن أو ثبوتها). فعندما نأتي إلى أي مسألة (قضية) نسأل ماذا أراد الله منا هنا؟ ونتتبع ما جاء به المجتهدون من فتاوى ونتتبع (إن شئنا التعمق) الأدلة التي استندوا عليها. فالأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي كما تقول القاعدة الأصولية. ثم بعد ذلك نُسلّم بالحكم سواء عرفنا علته أو حكمته أم لا، فنحن نؤمن يقينا أن الله لا يكتب علينا إلا ما فيه الخير لنا. وستتمكننون بسهولة كبيرة عندئذٍ من التعامل مع تلك المسألة. وتواجهنا في كل فترة العديد من القضايا (واتحدث خصوصًا عن تلك التي تلتهب عليها الآراء في الشبكات الاجتماعية والمنتديات التي يلتقي فيها الناس بين مؤيد ومعارض). المشكلة الكبرى في تعاملنا مع تلك القضايا هي أننا نُحكّم فيها عقولنا وميولنا وأهواءنا وهذا مخالفٌ لما يتوجب على المسلم فعله. فالأصل أن مرجعيتنا هي الإسلام والأصل تجردنا من كل الميول والأهواء. – هل يجوز الترحم على غير المسلم؟ – هل الجهاد في الإسلام جهاد دفع (حماية) أم جهاد طلب أيضا؟ – هل يوجد سبيٌ ورقيق في الإسلام أم لا؟ – هل طاعة ولي الأمر هي لمن يحكم الناس بغض النظر عما إذا حكمهم بالإسلام أو بغيره؟ – هل غير المسلم كافر؟ أم أنه مؤمن وأن الله محاسبه على إيمانه؟ نفتح كل هذه الأسئلة وغيرها مما يستجد للنقاش دائما ولكن بمرجعية شرعية فلا نُعطي أي رأي أو إجابة قبل أن نسأل ونعرف: ماذا قال ربنا عزوجل؟ وماذا كانت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تصرف الصحابة رضوان الله عليهم؟ وبماذا خرج المجتهدون بفتاوي وعلى أي الأدلة استندوا؟ يقول الله عزوجل {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} يروى أن رجلا أتى إلى الشافعي فسأله عن مسألة فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي: ما تقول أنت ؟ فقال : سبحان الله تراني في كنيسة ، تراني في بيعة، ترى على وسطي زنارا ، أقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، وأنت تقول لي ما تقول أنت ؟ أي أن الشافعي غضب من أن ذلك الرجل طلبه منه اعطاء ”رأيه الشخصي“، فهو كمجتهد ليس له رأي شخصي بل يستند حصرا على الدليل. كلنا مكلفون، فردا فردا، وكلنا مطالبٌ ببذل جهده لتلقي الأحكام الشرعية الصحيحة (بمرجعية الإسلام) ومن ثَم يحاسبنا اللهُ عزوجل على نياتنا وكلامنا وأعمالنا. وإقرارنا بهذه المرجعية هو مسألة في غاية الأهمية والخطورة، وهي مستقلة بالمناسبة عن امكانية وقوعنا في الخطأ (لأننا في النهاية بشر نخطئ)، فهنالك فرق جوهري بين التسليم بالحكم والتنفيذ العملي. فالمسلم يُسلم بحرمة الخمر ولكن قد يشربها أحدهم وهو مقرٌّ بحرمتها. وهذا يختلف تماما عمّن أنكر حرمتها وقد علم وعرف الأدلة القطعية في ذلك. لذلك وجب على كل واحدٍ فينا عندما يتهيأ لطرح الرأي أن يسأل وأن يبحث عن رأي الإسلام وحكمه وأن لا يُعمِلَ رأيَه ومزاجه. ولا بأس في أن نختلف فيما بيننا طالما كان لدى كل طرفٍ ”شبهة دليل“ بمعنى أنك لا ترى برأيه ولكن النصوص تحتمل فهمه لها أيضا. وفي هذه الحالة يكون الواحد منا مطالبٌ بالحكم الذي اعتمده على نفسه ولا ننكر على الطرف الآخر الحكم الذي تبناه. أرجو أن لا تترددوا في إبداء ملاحظاتكم وإثراء الموضوع. والله مِن وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *